
-
أُعْلِنَ يوم أمس عن بيع الدولة التونسيّة حوالي 70 بالمائة من أسهم بنك "الزيتونة" وشركة التأمين "الزيتونة تكافل" التابعة لها .. والتي كانت الدولة تملكها منذ الثورة بمقتضى مصادرتها من صخر الماطري أساسا.. والذي كان زوج ابنة الرئيس الأسبق بن علي.. وحصل على امتياز حصري بتأسيس أوّل بنك إسلامي تونسي صحبة مجموعة من رجال الأعمال التونسيّين..
ثمن الصفقة كان 370 مليون دينار تونسي.. وهو يبدو في ظاهره ثمن مغرٍ ومرتفع.. حقّق مداخيل هامّة لخزينة الدولة.. وبالعملة الصعبة أيضا.. لولا أنّ مشتري أغلبيّة رأسمال البنك هي شركة أجنبيّة.. (مجمّع "الماجدة" الإستثماري القطري)..!!!!
فمن جهة أولى.. فإنّ إعادة هيكلة البنك الإسلامي "الزيتونة".. وتطويره.. سيجعله يحقّق خلال السنوات القليلة القادمة أرباحا كبيرة بعشرات ملايين الدينارات سنويّا.. وبالتالي فإنّ الجهة المستثمرة ستسترجع سريعا المبلغ المالي المستثمر والمدفوع ثمنا لشراء البنك.. وستحقّق لاحقا فائضا في الأرباح خلال بضع سنوات لا غير..
وسيقوم الشريك الأجنبي في المصرف.. وفي كلّ سنة.. بتحويل عشرات ملايين الدينارات "المشفوطة" من السوق التونسيّة إلى خارج تونس.. وبالعملة الصعبة أيضا.. وهو ما سيشكّل نزيفا ماليّا مزمنا.. ومن الدولار أو الأورو.. كلّ سنة.. وإلى ما لا نهاية..!!
-
ومن المسكوت عنه الآن في تونس.. في ما يتعلّق بالنقص الفادح في إحتياطيّ العملة الصعبة ببلادنا.. أنّ من بين الأسباب الرئيسيّة هو نزيف التحويلات تحت عنوان إعادة تصدير الأرباح لعشرات الشركات الأجنبيّة الكبرى في تونس.. والتي تحوّل سنويّا ما يعادل آلاف ملايين الدينارات.. أي مليارات الدولارات أو الأوروات.. إلى الخارج بالعملة الصعبة.. لأرباح تحقّقت في تونس.. وحُصِّلت في الأصل.. بالدينار التونسي..!!!
ومنها خاصّة المساهمات الأجنبيّة في أغلب البنوك التونسيّة.. وكذلك المساهمين الأجانب في مشغّلي الهاتف الجوّال الثلاث الذين يحقّقون بمفردهم أرباحا تبلغ مئات ملايين الدينارات..
-
من جهة ثانية.. فإنّه من المعلوم بأنّ المؤسّسات الماليّة مثل البنوك والمصارف ومؤسّسات التمويل بمختلف أنواعها وشركات الإيجار المالي والتأمين ونحوها.. هي بمثابة الشريان التاجي الرئيسي للاقتصاد في أيّ بلد..
وفي تونس فإنّ البنوك هي العصب الحيّ للاقتصاد الوطني..
وإنّ خروج أغلب البنوك من إدارة رؤوس الأموال الوطنيّة يجعل رأس المال الأجنبي.. ومن وراءه القوى الماليّة وحتّى السياسيّة الأجنبيّة.. هي المتحكّمة الفعليّة واقعيّا في الاقتصاد التونسي.. وتبعا لذلك في وضعيّة البلاد.. بل وفي سياستها واستقلال قرارها الوطني..!!!
-
إنّ رغبة الحكومة التونسيّة الحاليّة.. والملحّة.. في إتمام بيع آخر ثلاث بنوك عمومية.. وهي الشركة التونسيّة للبنك والبنك الوطني الفلاحي وبنك الإسكان.. ستكون كارثة إستراتيجيّة شديدة الضرر بتونس على المدى القريب والبعيد.. حتّى وإن ظهر أنّ مداخيلها يمكن أن تعطي جرعة أوكسجين وقتيّة لسنة أو اثنتين لخزينة الدولة الفارغة..!!!
ولا شكّ أنّ إعادة هيكلة هذه البنوك العموميّة وتطويرها وتجديد طرق إدارتها وتسييرها.. ولو بالإستعانة بمكاتب خبرات أجنبيّة في المجال.. أو حتّى بمديرين غير تونسيّين من ذوي الخبرة الدوليّة.. هو أفضل وأذكى وأسلم من التفريط في تلك البنوك تماما للأجانب وللأبد.. بتعلّة أنّها بنوك خاسرة اليوم..!!!
-
كان على الدولة أن لا تبيع مصرف الزيتونة لأيّ طرف أجنبيّ.. وكان الأحرى بها التفريط فيه لمستثمرين تونسيّين.. ولو بسعر أقلّ..!!
فمعنى ذلك أن تبقى أرباح البنك كلّ سنة بتونس.. وأن تدخل من جديد في الدورة الاقتصاديّة الوطنيّة عبر مختلف المساهمين التونسيّين.. عوض تصديرها للخارج كأرباح صافية للمستثمرين الأجانب..
ومعناه أيضا أن لا تشكّل نزيفا مزمنا للعملة الصعبة.. والتي تشقى تونس في جمعها من السياحة ومن صادرات الفلاحة والفسفاط وغيره..
كان على الحكومات التونسيّة.. إن لزم الأمر وافتراضا بأنّ السوق التونسيّة ليس فيها مستثمرين يقدرون على دفع 370 مليون دينار دفعة واحدة لشراء 70% من أسهم مصرف "الزيتونة" وشركة التأمين "الزيتونة تكافل" التابعة له.. أن يقوموا بالتفريط في رأسمالها على دفعات.. ولو بنسبة 15 أو 20 بالمائة سنويّا عبر البورصة..
-
لكنّ السياسيّين الذين لا يرون ولا يخطّطون إلاّ في حدود أنوفهم.. ويسيّرون الدولة بعقليّة "اللّيلة خمر وغدا أمر".. أو "احييني الليلة وموّتني غدوة".. وديدنهم في ذلك عقليّة العامّة طبق سياسة "تسلييك" الأمور بأيّ طريقة للإيهام بالنجاحات الماليّة.. وبالنتائج الإيجابيّة.. فقط ظاهريّا.. وبالنسبة للوقت الذي هم فيه في كرسي الحكم.. دون أن يكترثوا بتاتا لنتائج وتداعيات سياساتهم وقراراتهم قصيرة الأمد على مستقبل الدولة.. هؤلاء السياسيّين الذين يحكمون البلاد.. يسبّبون كوارث إقتصاديّة واجتماعيّة لتونس ستعاني منها لأجيال قادمة..!!!
-
تماما كما نعاني اليوم الويلات من سياسات وقرارات جميع الحكومات السابقة والمتعاقبة منذ الإستقلال..!!!
-