يعتبر اليسار التونسي من أقدم العائلات الفكرية و السياسية في البلاد، ولكن ّ هذا المكوّن السياسي كأحد روافد الحركة الوطنية و الديمقراطية عرف تحولات كبيرة في مسيرته التاريخية، قادته في مرحلة ما بعد الثورة إلى التفكّك،بين قيادات اختارت سياق "العمل النقابي " ،وأخرى اختارت "العمل الجمعياتي "،وظلت عدة أحزاب صغيرة وشخصيات أخرى في إطارالفعل السياسي داخل "الجبهة الشعبية"، التي لا تعكس الامتداد التاريخي لليسار التونسي، والتي ضيعت فرصة تاريخية بعد اغتيال الشهيد شكر بلعيد، لتوحيد مكونات اليسار التونسي في حزب موحد،ولم تكتسب القدرة على التأثير في المسارات السياسية والاجتماعية من مواقع متقدّمة ،بل إنّها ظلّت قوة سياسية ثانوية تستطيب البقاء في جو المعارضة، من دون أن تتحكّم في المعادلات الكبرى ،وإن كان يُقرأ لها حساب من طرف أحزاب الإئتلاف الحاكم ، مع ما يُحسب لها من قدرة على مقاومة رياح الاندثار، سواء كانت ذاتية أو خارجية، ومن إصرار على البقاء مثل العنصر الكيميائي الذي يؤثّر حتّى وإن لم تلحظه العين المجرّدة.
في الفترة الأخيرة، أطلق القيادي النقابي والوزير السابق عبيد البريكي مبادرة جديدة تستهدف تجميع كل اليساريين والمؤمنين بالفكر الاجتماعي إلى جانب المستقلين في تنظيم سياسي جديد،إذ أعلن،خلال ندوة صحفية عقدها بالعاصمة التونسية يوم الإثنين 5فبراير/شباط الجاري،عن ضبط تركيبة الهيئة التأسيسية لمبادرة "حركة تونس إلى الأمام"( الاسم الذي اختاره لحزب اليسار التونسي الجديد( ، تتولى التحضير لمؤتمر الحركة الذي سيعقد خلال شهر نوفمبر 2018.وأكد البريكي،أن هذه الهيئة التأسيسية ستنتهي مهامها بعقد المؤتمر،وستبقى مفتوحة لإنضمام كل الأحزاب السياسية اليسارية والشخصيات الوطنية المستقلة التي تتبنى هذا المشروع الجديد الهادف إلى تجميع ولم شمل كل اليساريين، وفق تعبيره.وأفاد بأن الهيئة التأسيسية، تتركب في الوقت الحالي من 5 أحزاب إلتقت على أرضية فكرية وسياسية توحدها، ولها رؤية موحدة عن العمل السياسي في تونس، وهي "الحزب الشعبي التقدمي" و"حزب الوحدة الشعبية" و"حزب العمل الوطني الديمقراطي" و"حزب الثوابت" و"حزب تونس المستقبل"، إلى جانب عدد كبير من المستقلين والنقابيين.
لكن هذه المبادرة الجديدة ، ستصطدم بعدة أمراض قديمة وراهنة، استوطنت في مكونات اليسار التونسي، لعل أبرزها مرض الزعاماتية الذي قسم اليساريين
التونسيين تاريخيا، الأمر الذي قاد غلآ أن يظل هذا اليسار مقتصرًا على النخبة ..هذه النخبة التي زادت في نكبته عبر الانتماء إلى مدارس إيديولوجية وسياسية عالمية وإسقاطها اسقاطا تعسفيًا على الواقع التونسي ممّا نتج عنه بداية تشتّت اليسار وانقسامه لأسباب ايديولوجية واهية عوض الإتحاد والإحتكام لبلورة تأصيل مشروع فكري و ثقافي يؤسس لمشروع سياسي يوحد كلّ القوى المتكونة من الطبقة الوسطى و الطبقات الفقيرة .وما زاد في تشتيت اليسار التونسي هو الاختراق الذي نفذه نظام بن علي من قبل عناصر مندسة أسهمت في زرع الفتن بين القيادات اليساريّة ممّا أدّى بهم إلى أخطر مرض سياسي وهو مرض الزعاماتيّة الذي كان السبب الرئيسي في تقسيم كلّ المجموعات اليساريّة دون استثناء.هذا التشتّت جعل جزءا كبيرا من القواعد تنفر العمل التنظيمي ولم تعد تحمل من اليسار إلّا الوعي دون ممارسة الشيء الذي أضعف كلّ المجموعات والأحزاب اليساريّة.
التونسيين تاريخيا، الأمر الذي قاد غلآ أن يظل هذا اليسار مقتصرًا على النخبة ..هذه النخبة التي زادت في نكبته عبر الانتماء إلى مدارس إيديولوجية وسياسية عالمية وإسقاطها اسقاطا تعسفيًا على الواقع التونسي ممّا نتج عنه بداية تشتّت اليسار وانقسامه لأسباب ايديولوجية واهية عوض الإتحاد والإحتكام لبلورة تأصيل مشروع فكري و ثقافي يؤسس لمشروع سياسي يوحد كلّ القوى المتكونة من الطبقة الوسطى و الطبقات الفقيرة .وما زاد في تشتيت اليسار التونسي هو الاختراق الذي نفذه نظام بن علي من قبل عناصر مندسة أسهمت في زرع الفتن بين القيادات اليساريّة ممّا أدّى بهم إلى أخطر مرض سياسي وهو مرض الزعاماتيّة الذي كان السبب الرئيسي في تقسيم كلّ المجموعات اليساريّة دون استثناء.هذا التشتّت جعل جزءا كبيرا من القواعد تنفر العمل التنظيمي ولم تعد تحمل من اليسار إلّا الوعي دون ممارسة الشيء الذي أضعف كلّ المجموعات والأحزاب اليساريّة.
رغم إنّ البريكي قال إن "حركة تونس إلى الأمام" لن تستثني أي تنظيم سياسي في إطار فهم جديد لليسار، وهي منفتحة على جميع الأحزاب اليسارية والمكونات السياسية الأخرى بما فيها الجبهة الشعبية، فإنّ المحلل العقلاني للواقع التونسي يرى أن الأحزاب اليسارية الراديكالية والمحافظة ليست كلاً متجانساً ضمن رؤية أيديولوجية واحدة، بل هي تحتوي على مجموعة تيارات، يجمعها قاسماً مشتركاً هو بناء الدولة الديمقراطية التعددية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، و هذا ما يجعلها أقرب إلى تبني نهج الاشتراكية الديمقراطية، والأكثر شيوعاً على المستوى الإعلامي ما يسمى " الطريق الثالث"، إذا كانت هذه الأحزاب اليسارية حريصة أن تصل إلى السلطة فعلا، لا أن تبقى شراذم سياسية غير فاعلة على مستوى إدارة الحكم. فحين ندقق في برامج الأحزاب اليسارية، لا نرى تلك الفوارق الكبيرة، بين حزب العمال التونسي، وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، وحزب المسار الديمقراطي، أو حتى الحزب الجمهوري، فما الذي يمنعها أن تتشكل في حزب يساري اشتراكي ديمقراطي يضم في صفوفه عدة تيارات تتعايش بشكل ديمقراطي في داخله، كما هو الحال في العديد من الأحزاب الأوروبية، التي تجاوزت عقدة الزعامات التاريخية ، وأصبحت تعمل بدلالة عقلية الفريق.
وفي رأينا ينبغي على هذه المبادرة الجديدة التي تستهدف توحيد اليسار التونسي أن تُحَدِّد َأثناء هذه الفترة، موقفها بدقة، هل هي تريد أن تُساهم بتفكيرها وسياساتها وتحركاتها في إنعاش الاقتصاد مع فرض القيود اللازمة لتغيير الاتجاه الذي سار عليه، أم إنها مطالبة ببناء يسار اجتماعي وسياسي وسط التوترات الشديدة والمخاطر، وبلورة برنامج سياسي ونموذج جديد للتنمية يدافع عن مصالح العمال والفلاحين، والموظفين، والحرفيين والمثقفين والفئات المتوسطة في المجتمع، للوصول إلى السلطة والإنتقال التدريجي إلى عصر ما بعد النيوليبرالية.
وما سيحدد الوجه الحقيقي لهذه المبادرة الجديدة هي طريقة عملها الملموسة على الأرض، من خلال تبنيها الطريق الثالث بوصفها الخط الوسط بين الماركسية كأقصى اليسار، والليبرالية الجديدة، التي يتبناها الإسلاميون وحزب نداء تونس،والتي هي أقرب إلى الوسط أو يسار اليمين إذا جاز التعبير. وفضلا عن ذلك فإن "الطريق الثالث" تريد أن تكون حركة سياسية نشطة تقوم بالدورالفاعل فيها الأحزاب اليسارية و القومية و الديمقراطية، وهي من ثم ليست حركة فكرية نخبوية أطلقتها مجموعة من المفكرين السياسيين بقدر ما هي سبيل التفاعل بمعناه المنتج بين "الجبهة الشعبية" و"حركة تونس إلى الأمام" لتحقيق التجديد والنجاح في مجال الديمقراطية الاجتماعية المعاصرة، التي لا تعني أبداً مجرد إجراء تسوية بين اليسار واليمين، إنها تسعى للحصول على القيم الجوهرية التي تميز الوسط واليسار وتطبيقها في عالم يتسم بالتغيير العميق في المجالين الاقتصادي و الاجتماعي .
لقدهيمن فريقان اثنان على اليسارالتونسي ، اليسار المتشدد الذي رأى أن حكم الدولة هو نهاية بحدذاته.واليسار الأكثر اعتدالاً الذي قبل بهذا التوجه الأساسي لكنه فضل التسوية والحلول الوسط وأيّدها، لكن يبقى أن الطريق الثالثة تكمن في إعادة تقييم حاسمة وجدية، فهي تشكل القدرة على الحياة والنماء عبر توحيد فكر التيارين الهامين لليسار الوسط، المتمثل بالاشتراكية الديمقراطية والليبرالية اللتين كان لانفصالهما خلال العقود الماضية دور كبير في إضعاف السياسات التقدمية في تونس.