لكن حين إختلف بورقيبة مع صالح بن يوسف حول عملية تسليم سلاح المقاومين توصلت القوائم إلى تحديد عددا لا يفوق أكثر من ألفين بورقيبي موافق على تسليم سلاحه وأما البقية فقد رفضوا رفضا قطعيا تسليم أسلحتهم إيمانا منهم بوجوب مقاومة فرنسا الإستعمارية في تونس من أجل إستقلال بلادنا ..
18000 مقاوم مسلّح يهزمهم 2000 بورقيبي معضلة لا يقبلها العقل لو لا إستقواء المنشقين عن الحركة التحريرية بالجيش الفرنسي لفرض شروط المستعمر وتنصيب وكلائه في تونس "المستقلة" التي تتالت نكباتها طيلة أكثر من 60 سنة من خروج فرنسا عسكريا من بلادنا وتركت لنا نفايات الصبايحية والخونة يتداولون على السلطة ونهب البلاد ..
وقع تشويه حقائق تاريخنا الوطني بالتضليل والنفاق والمغالطات حتى تعتقد الأجيال أنه لا وجود لمقاوم ومناضل ومجاهد سوى الحبيب بورقيبة من أجل إستقلال تونس ..
تاريخ الحركة الوطنية فيه كثير من الحيف والحقائق المغيبة بتواطئ من مؤرخي البلاط وشهود الزور الذين كان يحركهم الطمع والجبن من آكرامات صاحب الفضل عليهم ..
18000 مقاوم داستهم ماكينة إجرام العهد البورقيبي بإستعانة من المستعمر إبان إستقلال تونس وتركوا لوعة في نفوس أجيال متعاقبة من عائلاتهم وذويهم بين القبائل والعروش والعائلات والجهات .. لذلك بقي النسيج المجتمعي في تونس مبتورا وملوّثا بالبهتان والنفاق والكذب ولا أحد يصدق أحد لأنّ ما بُني على باطل يبقى باطلا .. ولا يبقى في السعي لإعادة بناء المجتمع التونسي إلاّ العزم على إعادة بناء جسور الثقة بين الأفراد والعائلات والجهات لتكون السلطة السياسية قادرة على القفز إلى ضفة الآمان .. وما عدى ذلك لن يكون في تونس إستقرارا مهما حدث من بهلوانيات وخزعبلات بإسم الديمقراطية وإحترام حقوق الإنسان ..
راح بورقيبة وإنتهى عهد بورقيبة وما البكاء على الأطلال إلاّ تغريدا خارج التاريخ .. وذهب صالح بن يوسف دون رجعة ولن يعطّل إغتياله مجرى التاريخ .. لأنّ تونس باقية وتاريخها لم يبدأ لا مع بورقيبة ولا مع بن يوسف .. وأما عن الوافدين في وراثة السلطة فإنهم لا يزيدون عن معاول من الطين الذي يتفتت في أول إنجراف لا يترك له أثر .. لأنّ تونس أكبر من الجميع .. والتاريخ يذكر لها صولات وجولات في حوض البحر الأبيض المتوسط رغم المتزندقين على الهوية والتراث والدين والأحداث التاريخية الحقيقية التي بقيت طي الكتمان لكنها محفورة في ذاكرة أجيال لم تجد من يصالحها مع ذاتها ومحيطها ليبقى الصراع قائما بين الأخيار والأشرار تحت عناوين مختلفة ..
د. الصحبي العمري