تجدد الحديث عن صفقة القرن، وبدأت أجهزة إعلام أمريكية وصهيونية تروج لها من جديد.. ولا نريد أننعيد كلاما مكررا عن أخبار ومشروعات وخطط ما زالت غير مؤكدة، وتبدو مثلها مثل حدود الدولةالصهيونية، لا تقبل تقنينا أو رسما، وتُترك مفتوحة بهدف استيعاب كل ما يُغتصب من الأراضي العربيةبغرض التوسع المستمر، الرافض للتقنين أو الالتزام بحدود معينة، ومخطط «غزة الكبرى»، مثار منذ ماقبل زمن إرييل شارون، وفيه يتم تبادل أراض مصرية مقتطعة من سيناء مساحتها 600 كيلو متر مربعبأخرى أكبر قليلا؛ مغتصبة ومحتلة في النقب جنوب فلسطين، وذلك لمضاعفة مساحة غزة الكلية ثلاثمرات، واعتبارها بديلا لفلسطين، وعوضا عن استعادتها.
وبهذه الطريقة تبقى المستوطنات وأوضاع الضفة الغربية والأراضي العربية المحتلة برسم التهويدوالصهينة، بالإضافة إلى الادعاء أن مصر ستستفيد اقتصاديا من الميناء والمطار المقترح إقامتهماداخل دويلة غزة الكبرى،. باعتبارهما حلقة وصل وتواصل مصرية إلى الخليج العربي وأوروبا، وتعزيزذلك بمد طريق بري يُسهل مرور البشر والبضائع من وإلى المشرق العربي وإقليم الشرق الأوسط،بعيدا عن عبور الأراضي الفلسطينية المغتصبة.
ونشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» جانبا من الحديث المتجدد عن «الصفقة»، وعن رفض تل أبيب ما قيلأنه نسخة معدلة منها.. وأشارت إلى تقسيم القدس إلى قسمين، الغربي عاصمة للدولة الصهيونية،أما شرق المدينة المقدسة مرشح لأن يكون عاصمة لفلسطين.. وذكرت أن تل أبيب رفضتها وأن العربقبلوها بالإجماع. هذا بينما ينتظر المراقبون الاعلان عن «خطة سلام» الرئيس ترامب؛ العائمة والغائمةحول ما فيها من معلومات وتفاصيل.
وعليه كتب الصحافي الصهيوني «شلومو شمير» الثلاثاء الماضي في صحيفة «معاريف»، عن الموقفالمتوقع من خطة ترامب، وعن القدر الذي يمكن أن يؤدي لرفضها من تل أبيب، وإمكانية دخولها فيمواجهة مع واشنطن قائلا:. «حتى لو لم يتحقق ما قاله الرئيس ترامب بأن الخطة ستعلن بعد نحوأربعة أشهر، فليس ثمة ما يبعث على القلق».
معنى هذا أن الأمر إذا اقتصر على واشنطن وتل أبيب، فسيكون الكلام مجرد وسيلة معتادة لجسالنبض والتسويف وكسب الوقت، لغياب حل عادل أو متوازن، في ظروف الاختلال المتجذر في ميزانالقوى الصهيوني والعربي.. بالإضافة إلى أن معسكر اليمين الصهيوني الحاكم سيرفض الخطة، إذاوُجِدت أو اكتملت، وقُدِّمت رسميا إلى من يعنيهم الأمر.. وهنا يقول شمير «إذا ما نشرت الخطة رسميًابالفعل، فستسقط، وستذوي وتموت بعد أيام، وما نُشر مؤخرا من تصريحات عن احتمالات الحلالسياسي للصراع لم يكن في أي مرة سبقت ضعيفا أكثر مما هو عليه اليوم»
ويبدو هذا مدخلا لمناقشة قضية مثارة من عقود، حول انطباق فكرة «القابلية للاستعمار» على العرب،وكان قد أثارها المفكر والفيلسوف الجزائري الراحل مالك بن نبي.. ويرى أن الاستعمار من وجهة نظرهنتيجة طبيعة لقابلية المجتمع به، وتفسخ أوضاعه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وفقدانه القدرةعلى الاستمرار في أداء دوره ونشاطه الوظيفي، فينتهى كائنا مستَعْمَرا، وتأتي لحظة بداية بواعثالقابلية للاستعمار، وتتشكل في تفاصيل سلوك المستعمَر، ويعود بن نبي هنا إلى مؤرخ بحجم ابنخلدون؛ الذي صوَّر في كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهممن ذوي السلطان الأكبر»، ما يدل على أن هذه القابلية مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية، ويعني بهاالوظيفة التاريخية للمجتمع، التي تتوفر كشرط لضمان الاستمرار، وبالتالي ضمان القدرة على البقاء،والدفع بالمجتمع نحو التجديد، والتغلب على بواعث الركود المتوارثة من مراحل سبقت لم يكن قد توفرللمجتمع فيها بعد شرط الاكتمال.
ويشدنا ذلك إلى واقعنا الحالي حيث ارتاحت أجهزة الحكم ومعها قطاعات عريضة من سكان «القارةالعربية»، ارتاحت إلى التسليم بقابليتها بالتبعية، وكسبت إلى جانبها أنصارا ومؤيدين.. والقابليةبالتبعية في الظروف الراهنة هي المقابل للفكرة التي قال بها بن نبي.. فإذا كانت فكرة «القابليةللاستعمار» قد رأت النور عام 48 من القرن الماضي، في كتاب لبن نبي صدر الفرنسية.. وتُرجم للعربيةفي عام 1957، فخلال سبعين عاما مضت تقدمت مجتمعات، وتدهورت أمم أخرى.. وأبرز أشكال التدهورهو ما وصلت إليه دول «القارة العربية»، بعد صحوة سرعان ما خبت.. وجاءها التطور المذهل فيأجهزة ووسائط الاتصال والتواصل، ليقرب المسافات ويفتح العالم على المعارف والمعلوماتوالاتجاهات والأفكار، وفي الوقت ذاته مكنه من متابعة حال التوحش غير العادية المصاحبة لذلك.
ومع تماهى دول «القارة العربية» مع التبعية، والارتباط بكل ما هو استعماري وعنصري وهمجي، فإنمن معضلات هذه القابلية هو إقرار كل الأطراف المتعاملة مع صفقة القرن أو قل «صفعة القرن»المبهمة، والأطراف المدعوة إليها، إقرارهم جميعا بالانحياز الكامل إلى المصلحة الصهيونية.. وهوانحياز أفقد المجتمع وظيفته، وأسقط كيانات اجتماعية ـ غير تاريخية ـ تتكسب من الدمار والاقتتالوالحروب والعمل لنصرة الأعداء، وفي مقدمتهم من اغتصبوا الأرض وشردوا الملايين.. وبذلك اختفىتقريبا أي فعل إرادي لحلول ولو مرحلية تُسقط هذا الانحياز.
وهناك من يتصور أن هذا لن يستمر ونحن منهم؛ انطلاقا من قناعة مؤداها أن العالم وليس العربفقط يعيشون نهايات مراحل وبدايات عصور، من المتوقع أن تكون في مضمونها وآلياتها وأشكالهامغايرة تماما لما هو موجود الآن.. والدليل هو فعالية وصلابة الموقف الجماهيري الفلسطيني ولاأقول الموقف الرسمي.. فالموقف الرسمي متخلف فراسخ وأميال عن الموقف الجماهيري.. المواصِلوالمصر على استمرار مسيرات العودة منذ يومها الأول في نيسان/ إبريل 2018، مع ما يبدو من ظروفغير مواتية. وأهم ما قامت به المسيرات هو تجاوز فلسفة الإنتظار المهيمنة على العقل الرسميالعربي، وأهمها إنتظار «الحلول الوافدة» والمعلبة والمصهينة، الآتية من خارج أصحاب الشأنالحقيقيين، وكلها ليس لها إلا هدف واحد؛ هو إزاحة العقبة الفلسطينية من الطريق، واستباحة«القارة العربية» كلها وشطب القضية الفلسطنية نهائيا من سجلات الواقع والتاريخ.
والقراءة الصحيحة تقول بأن التعويل على الفعل الجماهيري المقاوم، ودخول عصر الشعوب، يثبت ماتأكد من قبل عن إمكانيات لا محدودة لهذا الفعل في تغيير المعادلات والموازين الاجتماعيةوالسياسية، وتصحيح وجهة البوصلة نحو جوهر الصراع.. الذي لن ينتهي إلا بتحرير فلسطين وعودةاللاجئين وإقامة الدولة مهما طال الزمن. وبوادر التصحيح بادية في ارتباك وغرق قوات الاحتلالالصهيوني، واستهدافها صدور المشاركين العزل، وقتل وجرح المئات بدم بارد، في محاولاتمستميتة لإخماد هبَّة هذا الحراك الجماهيري الكبير، وهو تطور اجتذب إلى جانب فلسطينِيي غزةوالضفة أبناء الشتات، من لبنان وسوريا والأردن ومصر، ومع اضطراد تطور مسيرات العودة سيكون منالصعب منعها من اختراق الحدود إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 في ساعة بدت قريبة