إنّ هذا التّقرير عرف ردود أفعال متباينة جدًّا في المجتمع التّونسيّ، بعضها مثمّن مؤيّد، وبعضها ناقد رافض رفضًا كلّيًّا لكلّ محتواه دون استثناء، وهذان الموقفان يصدران عن الخلفيّات الدّينيّة والإيديولوجيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة عبّرت عنْ نفسها بتنظيم مسيرتين الأولى رافضة، والثّانية مؤيّدة، وبإصدار بيانات حزبيّة أيضًا، وقلّة قليلة نظرت إلى هذا التّقرير نظرةً علميّة موضوعيّة، فدرسته وحلّلته، وبيّنت ما له وما عليه، وكشفت بعض نقاطه التّقدّميّة التي تفيد الفرد والمجتمع، وبعض نقاطه “الهدّامة” التي ستكون مدخلاً لتذويب الخصوصيّة الحضاريّة، وفرض القيم الكونيّة المعولمة عنوةً.
وقد رأينا أنْ ننظر في هذا التّقرير بالتّحليل لعلّنا نميّز فيه بين “الطّيّب والخبيث”، ونبيّن نقاطه الإيجابيّة، ونقاطه السّلبيّة، وارتأينا أنْ ننظر أوّلاً في المنطلقات التي أشار إليها التّقرير، وكانت عماد عمل اللّجنة توصيفًا واقتراحًا.
ينطلق تقرير لجنة الحريّات والمساواة بمدخل تحت عنوان “السّبق التّاريخيّ”بالإحالة على مسيرة الإصلاح التّشريعيّ التي أنجزتها الدّولة التّونسيّة منْ خلال سلطتها السّياسيّة الحاكمة، وركّزت بالخصوص على مجلّة الأحوال الشّخصيّة التي ركّزت إصلاحات مهمّة في المجال الأسريّ، وذكّرت بإلغاء جبر الفتاة على الزّواج، وحقّها الشّخصيّ في اختيار الزّوج اختيارًا إراديًّا، و”منع تعدّد الزّوجات..، وإلغاء عرف التّطليق وتعويضه بالطّلاق القضائيّ الذي “يستوي فيه الزّوجان.. ويضمن حقوقهما ويحفظ المصلحة الفضلى لأطفالهما” (ص4)، ثمّ أشارت إلى تحوير 12 جويلية 1993 الذي ألغى واجب الطّاعة الذي كان ملزمًا للزّوجة وعوّضه بواجب الاحترام المتبادل بين الزّوجين.
والمغالطة الأولى في هذا المنطلق تكمن في أنّ اللّجنةتجعل تونس صاحبة الرّيادة والسّبق في مجال الإصلاحات الاجتماعيّة والأحوال الشّخصيّة،لا سيّما المتعلّقة بالمسألة النّسويّة (وهذا خطاب ذاتويّ شائع عند بعض النّخب التّونسيّة)،متناسيةً مسيرة الإصلاح التي عرفتها بعض الأقطار العربيّة وخاصّة مصر وسوريا والعراق ولبنان، وهي مسيرة انطلقت منذ بداية القرن العشرين على أيدي روّاد الإصلاح من الرّجال على غرار رفاعة رافع الطّهطاويّ، وقاسم أمين، وتعزّزت على أيدي نساء شهيرات ناضلن في سبيل تحقيق الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة على غرار هدى الشّعراويّ وملك حفني ناصف ودريّة شفيق ونبويّة مصطفى، وقد تمكّنّ مثلاً منْ إلغاء حرمان المرأة من تعليمها الثّانويّ عند زواجها، وإلغاء حرمانها من الزّواج قبل أنْ تقضّي خمس سنوات على الأقل في مهنة التّدريس، إضافة إلى فرض دخولها البرلمان حين رفعن شعار “يسقط برلمان الرّجال”، وفرض دخولها المجلس الدّستوريّ في مصر سنة 1956، ولا أحد يُنكر تطوّر نسبة النّساء المشتغلات في مجال الفكر والآداب والفنون والعلوم في مصر وسوريا مثلاً،ونحنُ وإنْ كنّا لا ننكر دور تونس في هذا المجال، بلْ نقرّ بحقيقة كونها منْ ضمن الأقطار العربيّة التي ناضلت فيها المرأة لافتكاك حقوقها المشروعة، ولكنّ السّلطة السّياسيّة الحاكمة بعد الاستقلال هي التي كانت صاحبة الفضل في تحقيق ذلك بحسب نظرنا.
والمغالطة الثّانية تتمثّل في أنّ هذه اللّجنة وهي تعدّد المكاسب التي حقّقتها مجلّة الأحوال الشّخصيّة للمرأة التّونسيّة، أشارت إلى مسألة تعدّد الزّوجات المذكور في النّصّ القرآنيّ،وكأنّها تريد إقناع المتلقّي كون هذه التّشريعات جاءت مصحّحة لما ورد في التّشريع القرآني، والحقّ غير ذلك تمامًا، لأنّه لا وجود في النّصّ القرآنيّ ولا في التّشريع الإسلاميّ الذي أصّله الفقهاء أو القضاة لفرض الزّواج على البنت وهي كارهة للمتقدّم لخطبتها، رافضة للارتباط به، بلْ على العكس منْ ذلك تمامًا ففي أحاديث الرّسول (ص) ما يثبت إلزام الوليّ أخذ رأي ابنته في ذلك الخاطب، واشتراط موافقتها مبدأ لصحّة الزّواج، مثلما أنّ التّطليق الذي كان منْ قبل سلطةً مطلقةً في يديْ الزّوج لا علاقة له بالنّصوص الدّينيّة وتشريعاتها، بلْ هو عرف جارٍ مقيتٍ وجب التّخلّص منه منذ عهد بعيد، أمّا مسألة تعدّد الزّوجات الذي يُذكر دومًا باعتباره نصًّا ملزمًا للمسلمين فهو غير ذلك تمامًا، لأنّ الله تعالى لمْ يورد ذلك النّصّ بالصّيغة الإلزاميّة، بلْ جعله أمرًا مباحًا لا غير، ولا حرج أو إثم لتاركه، والدّليل على ذلك أنّ الله تعالى اشترط العدل بين النّساءوحبّب إلى النّفوس الاكتفاء بواحدة لأنّهاستصعبه بقوله: “فإنْ خفتمْ ألاّ تعدلوا فواحدة”، ثمّ حذّر منه بقوله تعالى: “ولنْ تعدلوا ولو حرصتم”، إضافةً إلى أنّ الرّسول (ص) استشاط غضبًا حين علِم أنّ عليّ بن أبي طالب قرّر الزّواج بثانية بعد ابنته فاطمة، وخيّره بين الإبقاء على فاطمة إنْ كانت صالحةً أو الارتباط بالثّانية إنْ أساءت معاشرته، وقد أشهد النّاس على ذلك وهو فوق المنبر، وهذا الموقف الذي يُنكر على الإسلام فرض تعدّد الزّوجات هو موقف شيخ الإسلام الإمام المصلح محمّد عبده الذي حذّر بدوره منْ تعدّد الزّوجات لما فيه منْ أضرار على أفراد الأسرة والمجتمع عامّة أكثر منْ نفعه.
والمغالطة الثّالثة تتمثّل في كون هذا التّقرير “المبشّر” جعل لتلك الإصلاحات التّشريعيّة المتعلّقة بالنّقاط المذكورة سابقًا الدّورالأساسيّ في إصلاح التّعليم وتعميمه والنّهوض بالصّحّة، وكأنّ الأقطار العربيّة والبلدان الإسلاميّة التي لمْ تلغٍ تعدّد الزّوجات مثلاً لمْ تعرف نهضة تعليميّة وتطوّرًا صحيًّا، وهي لعمري مغالطة كبرى لأنّه يكفي أنْ ننظر إلى الجزائر والمغرب مثلاً لرأينا رأي العين التّطوّر التّعليميّ والنّهضة الثّقافيّة الكبرى، وأسماء المفكّرين والأدباء والفنّانين من الجنسين شاهدة على ذلك.
أمّا المغالطة الرّابعةفتتمثّل في كون التّقريرجعل لهذه الإصلاحات ـ وخاصّة منع تعدّد الزّوجات ـ دورًا كبيرًا في إرساء أنموذج العائلة الذّريّة الضّيّقة بديلاً للعائلة الممتدّة الموسّعة، وتقليص الرّوابط القبليّة حدّ الاضمحلال، والأمر بالنّسبة إلينا لا يعود أساسًا إلى مجلّة الأحوال الشّخصيّة وحدها، وإنّما يعود بالأساس إلى التّحوّلات الاجتماعيّة التي فرضها تغيّر النّمط الاقتصاديّ المتّبع في تونس، إذْ تقلّص دور القطاع الفلاحيّ العائليّ الذي كان يتطلّب تكاتف أفراد العائلة الموسّعة في تنشيطه، وظهور الاقتصاد الخِدماتيّ، وانتقال النّاشطين في المجال الفلاحيّ والصّناعيّ اليدويّ الورشاتيّ الصّغير إلى مجال الوظيفة العموميّة، وتعمّق بحركة النّزوح من القرى إلى المدن، وتحوّل القرى من البداوة إلى التّمدّن، فأصبحت العائلة الذّريّة هي الأنموذج الاجتماعيّ المفضّل عند أغلب التّونسيّين.
أمّا صعود فكرة الحقوق الفرديّة الذي تزامن ـ بحسب التّقرير ـ مع ترسيخ المساواة فالفضل فيه يعود بالأساس إلى تطوّر التّعليم، وتعميمه، والذي فرض تغيير الذّهنيّات الاجتماعيّة، فأصبح الفرد الذي كان مرتبطًا بأسرته معاشيًّا وعمليًّا وسكنيًّا من الانفصال عنها وتحقيق ذاته الفرديّة بفضل ما توفّر له منْ دخل يتأتّى له منْ العمل الذي ينجزه فرديًّا، ونحن نعلم دور التّعليم في تحقيق الارتقاء الاجتماعيّ، وتحقيق الذّات الفرديّة وخاصّة حين كانت الشّهادة العلميّة في ما مضى تمكّن صاحبها من الالتحاق بالوظيفة مباشرةً بعد التّخرّج.
ونأتي الآن إلى المغالطة الخامسة وهي الأهمّ، فالتّقرير جاء تحت عنوان “تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة” بما يدلّ على أنّ مجال عمله سيتركّز أوّلاً على مسألة الحريّات الفرديّة التي تهمّ الرّجل والمرأة على حدّ سواء، لكنّه في منطلق تمهيده وخاتمته يركّز على الجانب الثّاني من العنوان “المساواة”وهي التي تعلّقتبالمسألة النّسويّة، معدّدًا في البداية المكاسب التي حقّقتها المرأة التّونسيّة بفضل مجلّة الأحوال الشّخصيّة، مؤكّدًا على أنّ هذه المكاسب ظلّت محدودة بسب عدم تطويرها بتشريعات منقّحة أو مستحدثة لفترات زمنيّة طويلة ممّا تسبّب ـ بحسب نظر اللّجنة ـ في عدم مواصلة مقاومة التّمييز ضدّ المرأة، وسؤالنا هنا: هل أنّ هذا التّقرير والأسباب الدّافعة له والنّتائج التي يروم تحقيقها تهمّ المواطن الذي لمْ ينلْ بعد حقوقه الفرديّة كاملةً، أمْ يهمّ المرأة فحسب لأنّها ما زالت تعاني الضّيم في مجتمع يمارس عليها التّمييز “الجنسيّ”؟ وهذا السّؤال يدفعنا إلى القول بأنّ هذا التّقرير انحرف عنْ عنوانه الرّئيس، أو لعلّه وضع هذا العنوان “المفخّخ” ليحجب عنًّا السّبب الحقيقيّ وهو المتعلّق أساسًا بمسألة القضاء على التّمييز النّهائيّ ضدّ المرأة، وتحقيق المساواة التّامّة، وهو المطلب الذي تفرضه الدّوائر العالميّة الفاعلة في المنطقة، ولا أحد يُنكر أنّ الاتّحاد الأوروبيّ مثلاً يفرض تغيير القوانين الجاري بها العمل في تونس، وتختلف عنْ قوانينه كيّ يواصل الدّعم الماليّ والتّعاون الاقتصاديّ.
أمّا مسألة الحقوق الفرديّة فقد وردت في ديباجة هذا التّقرير غائمة غامضة لمْ تعرّفها إلاّ بقولها “مفهوم الحقوق والحريّات الفرديّة في معناه الشّامل”، مذكّرةً بكونها بقيت مقصورة على الجانب الأمنيّ والقضائيّ، ولمْ تبلغ درجة “المفهوم الشّامل”، ممّا يجعل المتلقّي باحثًا في التّقرير عن المقصود به، والنّتائج التي يمكن أنْ يحقّقها المواطن الفرد فيه.
ومن النّقاط الأخرى التي أشار ت إليها مقدّمة التّقرير ونرى فيها مغالطات أخرى، القول بأنّ العمل كان تشاركيًّا لأنّنا نرى أنّ مستوى التّشاركيّة لمْ يكنْ مضمونًا، فعلى حدّ علمنا لمْ تضمّ اللّجنة تنوّعًا في الانتماء الدّينيّ (إنّ كنّا نعترف بوجود غير المسلمين في تونس ولهم حقوق فرديّة لا بدّ منْ التّمتّع بها)، أو الانتماء الإيديولوجيّ إذْ لا وجود في هذه اللّجنة لمنْ عرف بانتمائه الإسلاميّ لذلك لا نجد في تركيبة اللّجنة امرأة محجّبةً، أو لمنْ عرف بانتمائه القوميّ العروبيّ رغم كثرة مفكّري هذا التّيّار في تونس، بلْ لعلّ اللّجنة لا يمكنها أنْ تُنكر أنّ معظم أعضائها ـ باستثناء الجورشيّ ـ معروفون بولائهم للثّقافة الغربيّة لا سيّما الفرنكفونيّة منها، دون أنْ ننسى أيضًا أنّ هذه المشاورات المشار إليها مع الهيآت والمنظّمات والأحزاب كانت غائبة تمامًا عنْ مسامع المواطنين، ونتائج التّقرير تثبت أنّ عمل اللّجنة هذه كان عملاً داخليًّا لمْ يأخذ بآراء المخالفين لهم، ولمْ يكترث بردود أفعالهمْ.
يتبع