
ماذا تفعل العادة فينا؟ هي تبرمجنا برمجة يكون الفكاك منها عسيرا. أتت الصهيونية إلى منطقة عربية أثخن فيها الإستعمار وأذلّها وعوّدها على الإحساس بالضعف والهزيمة. هذا التعوّد هو الذي جعل المنطقة تقبل بالصهيونية. الشرط النفسي للقبول بهذا الكيان الدخيل توفّر بأقدار شجّعت زارعي الكيان عندنا وفينا. سُكّنت الصهيونية بداخلنا قبل أن تسكن أرضنا. تعوّدنا عليها قبل أن تحلّ بيننا واجتهدت هي بالحروب والاستباحات لنتعوّد عليها أكثر حتى صرنا الآن نعطي دروسا في التطبيع وندفع بألف حجة وحجة لنقنع الشاكّين بوجاهة التطبيع. تعوّدت إسرائيل على الإنتصار وتعوّدنا على الهزيمة والتاريخ منذ 48 ليس إلا محصّلة العادتين.
عندما يذكر نصرالله العادة والتعوّد فليخبر إسرائيل أنّ خرقا للعادة قد أنجزَ وأنّ ما سيكون غير ما كان حتى الآن. حلف المقاومة تعوّد على الانتصارات وله نصيب حتمي منها في القادم من الجولات. في المقابل فإنّ إسرائيل ما عادت قادرة على الإنتصار. هذا ما يثبّت كلامه من معادلة جديدة بعدما تثبّت واقعا ما يقود إلى هكذا معادلة. هي معادلة نفسية أو سيكولوجية أولا وتترتب عليها وبها في الفيزياء وبالفيزياء. سنوات طويلة أنفقها حزب الله بين بيروت وجنوب لبنان وكان ضعيفا بعدد وعدّة أقلّ كثيرا ممّا نرى. أنفقها وأنفق من الدّماء والعناء ليخرق العادة في الإتّجاهين وقبل ذلك ليخرق التعوّد النفسي والباطني في الإتجاهين. الذات اللبنانية التي كانت موضوع تندّر صهاينة يتوعّدونها بفرقة عسكرهم الموسيقية أتى منها بالتمرين وإعادة البناء والتركيب الجديد. وليس الخلل في غياب مثل هذه الذات لبنانيا أو عربيا فالكلّ يعلم أنّ هذه الذات حاضرة دوما بيننا وبنسب محترمة. ولكنّ الخلل كان في عجز هذه الذات عن أن تتحوّل منظومة ولقد تحوّلت كذلك مع حزب الله. بناء المنظومة حيوي ليكون فعل وتغيير عملي. قبل ذلك ذوات تحترق احتراق الشمعة وتمضي.
وبناء المنظومة هنا نجح بهندسة مبتكرة فلا هي هندسة أحزاب ولا هي هندسة ميليشيات ولا هي هندسة حركات احتجاج اجتماعي. هي هندسة مختلفة فيه مستويات معتبرة من الالتحام والتخلل والتراصّ بما يجعل الظاهرة عصية إن لجهة الفهم والتفكيك وإن لجهة الاختراق وصولا إلى القهر. هي الهندسة المتناغمة مع حالة الذات الجديدة. من حدّثوا أنفسهم أخيرا في الامارات بفكّ شفرة حزب الله يهذون. هم لا يملكون إلا المقاربة بالمقارنة والقياس وهذا لا ينفع بحضرة المختلف والمبتكر والذي يتشكّل برحم التجربة وبمخاضات التمرين اليومي. وما أجتهد فيه هنا ليس من فكّ الشفرة ولا أستطيع وإنما هو من الافتراض ومن تحييد المقاربة التبسيطية التي تفلح أمام ظاهرة جديدة. لنفهم حزب الله وجب استرجاع ذكرى ما كان في ايران. كانت ثورة في ايران وقبلها كان الخميني وهذا الرّجل هو النقطة وهو المركز لما تشكّل بعد ذلك دائريا واقعا وتاريخا. ذلك الشيخ الغريب بشكله وفي هندامه بزمن كانت فيه إيران قبلة تمدّن غربي اخترق كلّ التاريخ بكلمات سنة 1963.
كلمات قوية وثابتة ومصمّمة استنهض عبرها نخوة وكرامة الايرانيين وفضح فيها الشاه والاستعمار والصهيونية وعرّف هذا الثالوث مسؤولا عن ألم الايرانيين والمسلمين وكلّ البشر. هذه الكلمات أثمرت مخاضا ومنها كانت ثورة ضخمة ومريرة. في كلّ محطاتها كان تشكّك وكان توجس وكان الرّجل يبدّد في كلّ مرة بسكينة وهدوء. كان قوله على الدوام: حتما سننتصر. من الخارج لم يكن قوله مقنعا ولا مفهوما ولا علميا ولا واقعيا ولكن الرّجل وهو شيخ وأستاذ عرفان لامع ومحقّق كان ينظر في الامور بعين أخرى لا تتحسّر ولا تفتنها الكثافات. من الهذيان تفسير هذا الرّجل بدين ومذهب أو بلطم كربلاء وسبّ صحابة. هو ابن العرفان منهجا ومزاجا ويقينا وسلوكا وتمرينا يوميا. الله وحده يعلم أيّ مقام بلغ ليكون منه وبه هذا الذي كان وسيكون. كان في كثير من قراراته كثير من الجنون أو هكذا يبدو للناظرين ولكن سرعان ما يكتشف الناظرون الحكمة وبعد النّظر والتوفيق. بالحسابات العلمية المصطلح عليها هذا الرّجل مفارقة كبرى ولكنه كان وفعل وأثّر ويتواصل تأثيره بل يتجلّى تأثيره أكثر خلال المرحلة القادمة.
نعم لقد كان خارقا للعادات وتعلّم كثيرون منه أنّ العادات يمكن أن تُخرق بل زاد وعلّمهم كيف يخرقونها ثمّ زاد فبشّرهم بأنّهم سيخرقون كلّ العادات ويكونون طليعة تجدّد العالم وتعيد التركيب. هو آمن بأنّ الروح أقوى من المادّة: هذا كلّ أمره وليس هذا بالبسيط فلكي يحصل هكذا ايمان لا يكون المهر اعتناق دين أو الانتصار لمذهب أو أداء ركعات أو زيارة أربعين. المهر المطلوب هنا قتل نفسي ونهوض من زلزال باطني. انجاز ما أنجز الرّجل ليس مضمونا بفكر أو بدين. تنجزه فقط حالات عشق وصدق لا قبل لنا بها. قوله في أمريكا أنها شيطان أكبر فيه من السياسة ولا شك ولكن الرّجل فتح السياسة بالعرفان وعليه فإنّ القول يفكّك بعرفان لا بسياسة والاشارة هنا أبعد من القول بكثير. بلغ الخميني ضفّة معنوية عظيمة لا يرى منها الأشياء ولكنه يدرك معناها بمعنى أنّه يبلغ جوهريتها ولا يفتتن ببرقعها أو قناعها. نحن نراها قوة عظمى ببأس شديد قادرة بيد هي الأطول وهو يراها شيطانا وكفى. نحن نرى عالما غارقا في الظلمة لا فكاك له ولا خلاص قريب وهو يرى نورا لا يردّ قادما إليه. من حقّنا أن نحتج ونرفض ما يرى ولكن بعض الصبر قد ينفعنا فقد نقول بعد حين: كان وحده يرى ما لا نرى.
يرى جمهور العرب اسرائيل جيشا لا يُقهر وقوّة لا تبيد ويرى نصر الله اسرائيل أوهن من بيت العنكبوت. من كان يؤمن بأنّ القوّة للله جميعا عليه الايمان بأنّ ما دونه أوهن من بيت العنكبوت. نحن نؤمن ايمان مقدمات ونتنصّل من الاستتباعات. نؤمن بالغيب وترتعد فرائصنا أمام الشهادة. وخلق الانسان ضعيفا. هل النّظر في ما أنظر إليه بهذا الشّكل وبهذا المنهج ومن هذه الزاوية من الواقعية ومن العلمية أو من ذكاء وعبقرية؟ لا يعنيني من كلّ هذا شيء وهكذا أنظر وأقدّر أننا ذاهبون قريبا جدا إلى صدام ضخم بين نظريتين في القوّة وبين فلسفتين للوجود ونظريتين أخلاقيتين. كلّ ما رأيناه خلال السنوات الماضية في الجغرافيا العربية من تحضير للحلبة أو للميدان. لا مهرب البتة لا بفهلوة سياسيين ولا بمناورة ديبلوماسيين فالصدام حتمي ولا يتوهمنّ أحد أنّ اسرائيل تمكث بعد الصدام. ستتبخّر بوقت قياسي وإن أخرجت بمحطّة أولى بعض سمومها نفثا كما يأتي العنكبوت.
كان الخميني حسينيا ولا أعتقد أنه لطم كثيرا وهو يزور الحسين وعليه فلا يفسّر الرّجل بلطم ولا بزيارة، هذا للشيعة أو للمتشيّعين. أمّا للسنّة فأقول أن عمر فاروق وأنّه نموذج عدل ومن كان عمريا بحق أدرك أنّ أمريكا شيطان أكبر واجتهد لتزول اسرائيل.